الاثنين، 17 مارس 2014

عمارة الورطة



أحياناً أتسائل.. ما علاقتي أنا بكل هذا... لماذا علي أن أهتم بمدخل العاملين وغرفة الكهرباء وغرفة التكييف المركزي وكاونتر الاستقبال وماكينة صرف النقود وارتفاع فاصل كابينة التواليت وارتفاع مقبض باب الحمام.... حسناً لا بأس أن أهتم بهذه التفاصيل الدقيقة والغير رقيقة والغير رومانسية بالمرة.... لكني دائمة التذمر عند بداية كل مشروع "تباً... ما الذي أقحمت نفسي فيه!!!".... كان أقصى طموحي قبل أن التحق بقسم العمارة هو أن اتمكن من بناء مدرسة بالخشب والطين
:D صدقاً أنا لا أمزح.. لقد بدأ افتتاني بالمعمار منذ أن شاهدت فيلماً وثائقياً عن مدرسة بُنيت في ماليزيا ـ على ما أذكر ـ بخامات البيئة والتي هي الطين والخشب المحلي وكانت هذه المدرسة رائعة إلى حد لا يُمكن تصوره... بعد ذلك درسنا مقالاً صغيراً عن حسن فتحي وعمارة الفُقراء... افتتنت بالمعمار أكثر... قررت أن هذا سيكون هدفي في الحياة... أن أجعل الناس يعيشون أفضل حياة ويبنون أروع البيوت بأقل الخامات والتكاليف وبمواد صديقة للبيئة ـ كنت أحب البيئة آنذاك ـ ... لم يمر وقت طويل حتى نسيت المعمار تماماً ونسيت البيئة والطين وكل هذه الأشياء وقررت " أريد أن أصبح مبرمجة ومهندسة حاسبات"... دخلت الهندسة... وأعرف أنني كاتبة ... وأن الكتابة هي أروع شيء يمكنني أن أفعله في حياتي.. لكنني فقط لم أرد أن آكل بقلمي حتى لا أنكسر أمام لقمة العيش وأضطر للكتابة ضد مبادئي.... قررت أن الكتابة موهبة مُفيدة ولكنها ليست مهنة أبداً.... على كل حال لم يكن هناك وقت لمقارنة الكاتبة بالمهندسة.... كان الأمران مفصولان عن بعضهما تماماً... وبدأت دراسة الهندسة.... وبدأت أكتشف أن الجامعة ليست بكل التصورات الرائعة المستقرة في خيالي... إنها فقط مكان آخر لصنع الحمقى.. لم أرد أن أكون حمقاء.. أو أن ( آكل الكتب) كما كنت أفعل في الثانوية العامة.. كنت أنتظر طريقة آخرى للتعليم... لكن على أي حال لم يكن هذا مهماً أبداً... أنا أعرف ماذا أريد... أريد أن أصبح مبرمجة ولدي العديد من الأفكار .. أنتظر فقط ان أعرف كيف أنفذها..... كنت متفوقة جداً في مادة الحاسبات وخاصة في المعمل.. التحقت بكورس حاسبات اضافي وبدأت في تزويد معلوماتي وتطورت وأصبحت أفضل في هذه المادة وكان بامكاني حين ذاك أن أنفذ بعض البرامج الصغيرة وكنت سعيدة جداً بهذا :D .... لكن للأسف لم تكن الحاسبات هي المادة الوحيدة :D إليكم المُفاجأة... كنت فاشلة تماماً في مادة الرياضيات بكل فروعها... كنت سيئة في الفيزياء أيضاً.... لكن فرصتي في الرياضيات كانت معدومة تماماً ... كنت أخشى أن أرسب بسببها... وبالرغم من أنني بذلت قصارى جهدي وحضرت كل المحاضرات وذاكرت كثيراً وكنت مركزة على حلم تأسيس شركة برمجة تنافس مايكروسوفت وجوجل.. إلا أن الحلم كان يتسرب من يدي شيئاً فشيء..... لابد أن أحصل على تقدير امتياز لالتحق بقسم هندسة الحاسبات.. وعليّ أن أكون متفوقة في مادتي الرياضيات والفيزياء لالتحق بقسم الاتصالات... بحسابات منطقية بسيطة.. وعندما حصلت على نتيجة التيرم الأول في السنة الاعدادية أدركت أن فُرصتي معدومة تماماً... وأن هذا الحلم لا سبيل لتحقيقه الآن... ربما يمكنني فيما بعد أن اطور نفسي في هذا المجال خارج اطار الجامعة... لكن الآن... لابد من بديل... وكانت العمارة... خلال التيرم الثاني في السنة الاعدادية بدأت أقتنع بأن العمارة هي أروع مجال للدراسة على الاطلاق... وأن قسم العمارة هو أفضل الأقسام في الكلية... وأن العمارة أروع بكثير من البرمجة.... الا أن ألأفكار السائدة عن قسم العمارة كانت مُضحكة فعلاً ولا تمت للواقع بأي صلة :D ... " قسم لذيذ.. قسم بنات... قسم نايتي... معندهمش محاضرات... بيخرجو ويتفسحو كتير... بيرسمو ويلونو ومفيش مذاكرة خالص... ده كمان معندهمش امتحانات ميدتيرم :D ... ده قسم أدبي هندسة... ده تجارة هندسة.... انتو آخركم ارمي السقالة يابني وشد سيخين حديد :D" وكانت فكرة الاشخاص العاديين تماماً كفكرة أخي محمد " بتعملو بيوت :D  " .... حسناً ... الأمر أكبر من البيوت وأكبر من الشقق وأكبر من المدارس والمستشفيات وأكبر من كل شيء.... إنه القسم الذي لا توجد به دراسة ولا مُذاكرة ولا امتحانات في منتصف التيرم... يوجد فقط الأبحاث... ـ عليك أن تتخيل صدى صوت وموسيقى تصويرية لصراخ يستمر لمدة نصف ساعة ـ ... لقد وقعنا في الفخ :D .... المُفاجأة أنه لا توجد أي مناهج دراسة محددة... يضع الدكتور أمامك المشكلة وعليك أن توجد لها الحل بنفسك وعليك أن تتعلم كل ما ينبغي أن تعرفه بمفردك.. العالم كله ساحتك.. والمكتبة كلها منهجك.. عليك أن ترجع إلى كل المباني التي انشئت منذ بدء الخليقة وحتى يومنا هذا وتدرسها جيداً لكي لا تكرر أخطاء البشرية السابقة.. لقد جئت بعدهم عليك أن تتعلم منهم.... لابد أيضاً أن تدرس كل المعمارين المشهورين في هذا العالم سواء المعاصرين أو اؤلئك الذين تحولو إلى رفاة.. عليك أن تفهم اساليبهم الخاصه واتجاهاتهم المعمارية ومن ثم تتبنى اتجاهك الخاص.... ثم عليك بعد كل هذا أن تطور مهاراتك في الرسم والتلوين واستخدام البرامج الحديثة والتقنيات العالية لتتمكن من عرض فكرتك... عليك ان تتمتع بحس فني عالي وأن تدرس أساليب التسويق لتعرض فكرتك على الزبون ـ والذي سيكون نفسه هو الدكتور أثناء دراستك ـ ... عليك أن تدرس أساليب الانشاء المختلفة لتدرك أن قاعة المسرح الكبيرة الملحقة بالمشروع لا ينبغي أن يقف أي عمود بسذاجة في منتصفها ولا في أي مكان بداخلها.... أنت ليس لديك أي فكرة مسبقة عن أين يجب أن يقف العمود.. ولا تدري كيف يمكن ان تمسك الجدران نفسها من دون أعمدة .... لكن عليك أن تبحث... وعليك أن تعرف وعليك أن تتعلم..... الدكتور لن يخبرك بشيء.... لأنه ببساطة هناك أكثر من مليون طريقة لكي لا يقف هذا العمود الساذج في المنتصف... أنت عليك فقط أن تختار الطريقة التي تُعجبك وتلائم فكرتك.
أما عن الأفكار فهي لا نهائية... فعندما يُطلب منك بناء مدرسة فهناك مليون طريقة لبناء هذه المدرسة.. وعندما يكون أكثر تحديداً ويخبرك بحجم الأرض ومكانها ويحدد أن المدخل ينبغي أن يكون من جهة معينة والفصول لها عدد معين ومساحة معينة وكذلك الحمامات وغرف المدرسين وكل شيء آخر .. ولما يخبرك بأدق التفاصيل ستبقى لديك نفس المليون طريقة وستجد أن الأفكار كثيرة لدرجة تعجزك عن التفكير.
أفهم أغلب المواد التي ندرسها وأفهم الهدف النبيل من وراء دراستها.... وأجدها مفيدة جداً في الوقت الراهن... أعرف تماماً ما أهمية أن يكون الممر في المبنى العام أكثر من 70 سم .. ببساطة حتى لا ينحشر الناس... أفهم تماماً لما يجب ان أحسب الأحمال الواقعة على السقف.. ببساطة حتى لا يقع السقف نفسه على الناس... ليس الأمر هنا مثل مسائل الهندسة التحليلية أو تفاضل جيب الزاوية وجيب تمام الزاوية واللذان لم أفهمها يوماً في حياتي.... .
أن تكون معمارياً عليك أن تهتم بالتفاصيل... عليك أن تهتم بالسنتيمتر والمللي.. عليك أن تهتم بالبشر الذين يعيشون في المكان والذين يزورونه... عليك أن تحدد وتفهم كل التفاصيل الصغيرة.... عرض الشباك وطوله وشكله وخامته وارتفاعه ومكان مقبضه واتجاه فتحه وغلقه... لا أتحدث عن الشباك.. حسناً هناك ألف تفصيلة يجب أن تكون حاضرة في ذهنك عند تصميم أي شيء... ومع ذلك... وبعد قضاء 7 أيام في ايجاد حل مبدأي للمشكلة التصميمية وفي اختيار الاماكن والاشكال المناسبة للفراغات المختلفة وبعد ان تقتنع أنك صممت مبنى رائع وأروع حتى من تصميمات فرانك جاري.. ستكتشف أنك نسيت حمامات العاملين ونسيت مطبخ الكافتريا ونسيت مدخل الخدمة ووضعت غرف الادارة في مكان يصعب الوصول إليه وليس للغرفة أي باب ولن تفلح محاولات تسلق الجدران لدخولها
:D .... ستحل هذه المشاكل فيما بعد وستتعلم عن طريق التجربة والخطأ.. وسيأتي اليوم الذي تجرب فيه أن تتبني العمارة الخضراء وستجد ان أبحاثك كلها في هذا الصدد غير مجدية و"إن الموضوع أكبر من منت فاكر بكتير وانك اساساً مش فاهم حاجة من الكتب والمراجع اللي بتدور فيها وفي الآخر هتجيب قلم أخضر فلوماستر وتلون المبنى بتاعك  :D ... وده بيفكرني بتيمون لما قال قصيدة أي كلام وبومبا قاله أومال فين الوزن والقافية قاله ده شعر حر :D .. "
عندما أجد نفسي تورطت في بحث عن القياسات الخاصة بالأطفال والقياسات الخاصة بالسيارات والجراشات والاشتراطات البنائية الخاصة بالمعاقين والاشتراطات البنائية للفنادق الخمس نجوم والعمارة الخضراء والعمارة الذكية وكل هذا مطلوب خلال يومين فقط أجدني أقول " أنا بحب الشعر الحر
:D ... أنا عاوزة أحول آداب لغة عربية"... بحق السماء لماذا ورطت نفسي في هذا الأمر... لكنها العمارة... أروع ورطة ... وأروع خيباتي  في هذه الحياة :D ... .

ملحوظة ع الجنب:  الأغنية دي بتعبر عننا جداً :) .. .
أغنية I am an architect

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق