الاثنين، 24 مارس 2014

حوار مع ابني (أنسى ولا أعرف)

"ماما جو نى سى با  يعني ايه؟؟"...
ليس هذا سوى صوت ابني البالغ من العمر 7 أعوام.. أصبحو يدرسون اللغة الفرنسية في الابتدائية هذه الأيام... ولدي سعيد الحظ لأن أمه تجيد العربية والانجليزية... الفرنسية نسيتها تماماً... أرد "استنى يا وليد أما أجيب النضارة"... عندما أخبرت أصدقائي بأسماء أولادي في العشرين من عمري لم يكن من بينهم اسم الوليد... لكن هذا ما يحدث... الأشياء التي نخبر بها أصدقائنا في العشرين لا تحدث أبداً.. أنا أيضاً نسيت قائمة الأسماء التي قلتها يوماً.. سأتصل بصديقي الذي لا ينسى أي شيء أخبره به ليذكرني بأسماء أولادي التي اخترتها في العشرين .. "(       ) هو أنا قلتلك أسماء ولادي ايه؟؟"... يضحك (       ) ويذكر لي قائمة طويلة أذكر أنا منها الآن البراء وبكر... أضحك جداً من طول القائمة.. لماذا اخترت كل هذا الأسماء؟؟
ـ"الجيش"...
 ـ ههههههههههه جيش بحاله... دأنا مش قادرة على واحد.. أنا كنت عبيطة قوي.

أحضرت نظارتي.. الأمر لا يحتاج إلى نظارة.. وليد قال الجمله "جو نى سى با" .. أنا لا أعرف.. سأعرف فيما بعد أن هذا هو المعنى الحرفي للجملة "أنا لا أعرف".... أعتبر نسياني للغة الفرنسة أحد لعناتي القديمة... المشكلة أنني نسيت أشياء كثيرة جداً في الحياة.. نسيت الفرنسية.. نسيت الكتابة.. نسيت الرسم.. نسيت الديزاين... نسيت كل شيء تعلمته في الماضي... لكني في المقابل تعلمت أشياء جديدة... تعلمت كيف نعيش الشهر كله بال مرتب دون ان نستلف من أمي كل آخر شهر.. لقد عانيت في تعلم هذا الأمر أكثر مما عانيته في دراسة العمارة نفسها... تعلمت أيضاً كيف أشتري كل شيء أحتاج له فقط... تعلمت أخيراً كيف أشتري جذمة واحدة بدلاً من أن أشتري 9 جذم وأركنهم جميعاً على الرف أو ألقي بهم في أي مكان... تعلمت أخيراً ما هو الفرق بين المسكرة والأي شادو والأي لاينر .. كنت أظن أنني سأفني عمري كله دون أن أعرف الفرق.... تعلمت أن وليد هو أعظم منح الرب على هذه الأرض وتعلمت أن الانسان عليه أن يعمل حتى لو لم يحب عمله وأن الانسان ان لم يستطع التضحية عليه أن يقبل بما هو عليه وأن الأغنياء ليسو أسعد منا على أيةً حال وأنه لا فرق بين أن تعمل نادلاً في مطعم أو تعمل طبيباً جراحاً.. المهم أن تكون سعيداً.. أهم شيء تعلمته ألا أبكي على الأحلام التي لا تتحقق وأن كثرة الأحلام مُضنية وأن حلم واحد كفيل بأن تفني عمرك كله في محاولة الحصول عليه... .

الأمر لا يحتاج إلى نظارة.. الأمر لا يحتاج إلى ماما .. "متدور يابني في جوجل ترانسليشن"... لكن الأمر ليس بهذه البساطة فالمشكلة ان "ماما متعرفش" لا يمكن أن تكون ماما متعرفش أبداً.. ماما لازم تكون عارفة كل حاجة.. هذا ما يعتقده الوليد.. أمه مُثقفه.. أمه مُعلمة.. أمه تقرأ وتعمل وتكتب وتتصفح الانترنت كيف لها ألا تعرف شيئاً بسيطاً كهذا... الحل كان رومانسياً جداً وبسيطاً جداً أبسط من أن أبحث أنا بنفسي لأخبره بمعنى هذه الجملة وأبسط من أن أستعين بصديقتي التي تعمل مترجمة في درا الشروق وأبسط من أن تهتز صورتي أمام ابني ويبكي طوال الليل لأنه أمه لا تعرف.. بكل بساطة لو أنني قلت "لا أعرف" ستُحل المُشكلة لن يدرك وليد أنني فعلاً لا أعرف سيفهم أن هذا هو معنى الكلمه وهذا هو معناها فعلاً... .
لم أستعن بالحلول الرومانسية... على وليد أن يكتشف الحقيقة ذات يوم... لما لا يكون هذا اليوم.. أول صدمة في حياة أي طفل هي أن يكشف أن معلمه أخطأ.. تنهار أول الثوابت.. "المستر قال كذا" بس المستر غلطان... "المذيعة قالت كذا" بس المذيعة غلطانة.. "فلان ع النت قايل كذا".. "الموقع الفلاني كاتب كذا" ... "الترجمة طلعتلي كذا" بس كل دول غلطانين... هذه هي الحقائق التي يكتشفها أي طفل بالتدريج... علي فقط أن أكشف حقيقة واحدة الآن... "ماما متعرفش".. أذكر أنني عندما كنت أذاكر لأخوتي الصغار لم أقل أبداً كلمة معرفش.. وكانو يسألونني عن أشياء كثيرة لا أعرفها فعلاً وأنا أبحث وأعرف وأقول لهم.. لا أنسى أي شيء يخبرونني به رغم أنني في العادة نساية لكنهم يقولون "مفيش مهندسة متعرفش ومفيش مهندسة بتنسى" .. كنت سعيدة جداً بهذه الصفات الجديدة الُمقترنة بكوني مهندسة.. لم أشأ أبداً أن أصدمهم بالحقيقة "المهندسين في حاجات ميعرفوهاش وساعات بينسو" لكن على أية حال المحافظة على هذه الكذبة أسهل بكثير من مواجتهم بالحقيقة يمكنني أن أحاول أن أعرف ويمكنني أن أحاول أن أتذكر.. في النهاية سيكبرون وسيفهمون أن المهندسة ليست بهذه الروعة وأنني فقط مجرد حمقاء أخرى في هذا العالم.

ـ ماما كل ده بتجيبي النضارة؟؟
ـ معلش يا وليد سرحت
ـ هاهأ (ضحك وليد ضحكته المعتادة التي تعلمها من أبيه عندما أقول أنني سرحت)
ـ وريني كده.. (بدأت أتلعثم) جى..جو..جو.. نى.. سى.... ؟؟ آه باينلها سى.. جو نى سى با.. جو نى سى با.
ـ أيوه ايه بقى معناها؟؟
ـ معرفش.
ـ أهااااااا.. "معرفش".
ـ لا يا بابا أنا اللي معرفش.
ـ متعرفيش ايه
o.O
ـ معرفش الجملة دي معناها ايه.
ـ ازاي يعني؟؟ مأخدتيهاش؟؟
ـ لأ أخدتها بس مش فاكراها.. نسيتها
ـ نسيتيهاااا (ينظر إليّ بابتسامة خبيثة).. بقى مكنتيش بتذاكري كويس.

الوليد ينسى لأنه لا يُذاكر... أنا أنسى لأنني لا أريد أن أعرف ... أنا أنسى لأنني لم أعد بحاجة للتذكر... أنا أنسى لأنني ملأت ذاكرتي بكل الأرقام الصغيرة التافهة التي أراجعها كل يوم في المكتب على اللوحات الهندسية حتى لا تسقط أي بناية فوق رأسي... أنا أنسى لأن كل القصائد التي حفظتها لم تعد ذات قيمة في يوم من الأيام... أنا أنسى لأنني لا أريد أن أصاب بالزهايمر... أنا أنسى لأن التذكر يرهقني... أنا أنسى لأنني لا أُذاكر... لا يمكنني مُذاكرة كل شيء عرفته ذات يوم... أنا أنسى لأنني من الجيل الذي هتف ضد العسكر في عام ونادى برجوعه الى السلطة في العام التالي... أنا أنسى لأنني لست بحاجة لأن أذكر.... لاتعرف يا وليد كيف عانت أمك لتتوقف عن المُذاكرة والبحث و تصبح ككل الناس العاديين ... تنسى ولا تعرف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق